نظرية التطور

مقدمة:


يتناول هذا البحث الموجز نظرية التطور مبتدئا بسرد قصة نظرية التطور منذ عهد الفلاسفة الأغريق وحتى نظرية التطور الحديثة لجارلس دارون، ثم يتطرق البحث في فصله الثاني إلى ماهية نظرية التطور ونصها، وفي فصله الثالث يورد الأدلة القاطعة التي تفند النظرية وتدحضها، وأخيرا في فصله الرابع يتناول البحث أسباب ذيوع صيت النظرية رغم ووهنها وضعفها. 


الفصل الأول: أصل نظرية التطور ونشأتها:


نظريات التطور السابقة :


حاول العلماء اكتشاف سر الحياة وسبب وجودها، وعندما عجزوا عن بلوغ تلك الغاية سلك البعض طرق الخيال، فمثلا: ادعى العالم الفيزيائي - الكيميائي السويسري الأصل " سوانتا آغوست ايرنيوس " : (( أن الكائنات الحية المجهرية توجد في فضاء الكون منذ الأزل، وأن هذه الكائنات المجهرية عندما تستقر على أحد الكواكب فإنها تتحول إلى مختلف أنواع الكائنات بفعل عوامل التطور )) .

ولكن عندما اكتشف العلم أن الإشعاع الكوني الذي يملأ الفضاء لا يدع مجالا ولا فرصة للحياة في الفضاء ماتت هذه النظرية في مهدها . أما الآن فإن العلماء يتفقون أن الكون بأجمعه ليس أزليا بل له بداية معلومة .

وادعى علماء آخرون أن الكائنات الحية تطورت من الجماد، فقالوا أن المواد غير العضوية تطورت إلى مواد عضوية في أول الأمر ثم تطورت إلى أشكال الحياة العضوية المعروفة، وأننا لو رجعنا إلى الوراء آمادا سحيقة ووصلنا إلى مرحلة ظهور الحياة، لانكشفت لنا كيفية جريان هذا التحول والتطور.

إن نظريات التطور ليست إلا محاولة لإقامة الحياة على أساسين ومفهومين خاليين من الحياة والشعور، وهما الصدفة والانتخاب الطبيعي. ولنكرر هنا: أن هذه النظريات تستند على قوة الخيال أكثر من استنادها على العقل أو على العلم . 

إن الادعاء بمجيء الأحياء بعضها من بعض عن طريق التطور ادعاء قديم، يرجع تاريخه إلى القرن السادس قبل الميلاد في بلاد الإغريق, فقد قدم بعض الفلاسفة عدد من الفرضيات عن تطور الحياة من الأنواع البسيطة إلى الأنواع المعقدة عن طريق الصدفة.

أما نظريات التطور الحديثة فترجع بدايتها إلى القرن الثامن عشر الميلادي . فالنظرية التي قدمها الطبيب الانجليزي "أراسموس دارون" -وهو جد  جارلس دارون-  بالاشتراك مع العالم الفرنسي كومت دي بوفون تقول أن الأحياء تكتسب صفات معينة أثناء تكيفها للبيئة، وتنقل هذه الصفات إلى الأجيال التالية عن طريق الوراثة ، فمثلا: تكتسب بعض الحيوانات المتعرضة للصدمات وللجروح جلودا تشبه الدرع، ثم تنتقل هذه الصفة إلى أنسالها .

وفي بداية القرن التاسع عشر قدم عالم فرنسي آخر وهو "لامارك" نظرية مشابهة للنظرية السابقة، بفارق بسيط وهو أنه اعتبر حاجات الكائن العامل الأول في التطور، فمثلا : استطال عنق الزرافة بعد دوام محاولتها الوصول إلى أوراق الأشجار العالية، وبالمقابل تضعف الأعضاء التي لا تستعملها الأحياء ولا تشعر بالحاجة إليها . 

لم تكن هناك حاجة إلى وقت طويل لكي تفقد هذه النظريات قيمتها، فعندما تذكر نظرية اليوم، لا يتذكر أحد "أراسموس دارون" ولا "بوفون" أو "لامارك" ، ذلك لأن هذه النظرية التي أصبحت موضة منذ سنة 1859 م وضعت أسسها من قبل "جارلس دارون" حفيد "أراسموس دارون" .


نظرية التطور لجارلس دارون ( نظرية التطور الحديثة ) :


 ولد جارلس روبرت دارون سنة 1809 م في شراوسبري بإنجلترا من أب طبيب، ودرس الطب في جامعة أدنبرة مدة سنتين، ولكنه تركها قبل إكمالها؛ لأن مهنة الطب - وهي مهنة والده - لم تجتذبه . ولكون والده يرغب أن يكون ابنه قسيسا فقد دخل دارون كلية "اليسوع" في جامعة كامبردج، ولكنه لم يعمل واعظا، فإنه بعد أن حصل على الشهادة سنة 1831 م ذهب في سفرة بحرية على متن سفينة "بيجل" إلى جنوب إمريكا وإلى جزر الباسفيك حيث تجول هناك لمدة خمس سنوات .


وخلال سياحته قام بتدقيق أنواع الحيوانات التي صادفها، وعندما عاد إلى بلاده كان قد أصيب بمرض أثر عليه طوال حياته. وفي سنة 1839 م نشر ذكريات سياحته تلك في كتاب بعنوان "سياحة عالم طبيعي بسفينة بيجل" علما بأن نظريته في التطور لم تكن قد اختمرت بعد في ذهنه آنذاك .


وخلال سنوات 1838 م – 1841 م عمل دارون سكرتيرا في جمعية الجيولوجيين، وتعرف أثناءها على الجيولوجي "سير جارلس ليل" وصادقه، فاستفاد فائدة كبيرة من أفكاره ومعلوماته .


ولكن البحث الذي نشره الاقتصادي الانجليزي "توماس روبرت مالثوس" حول التزايد السكاني يعتبر أبرز مؤثر على أفكار دارون، وقد انطلق مالثوس في بحثه من فكرة: أن الحياة عبارة عن صراع, ويلفت الأنظار إلى أن عدد السكان يتزايد أكثر من تزايد الموارد الغذائية, ولكن الحروب والأمراض والمجاعات تحد وتقلل من هذه الزيادة، ولهذه الأسباب فإن هناك نوعا من التوازن بين عدد السكان وبين الغذاء، وعندما طبق دارون أفكار مالثوس هذه على مشاهداته توصل إلى فكرة "الانتخاب الطبيعي" .


بموجب هذه الفكرة هناك صراع لا يفتر ولا يهدأ في الحياة. وأثناء هذا الصراع فإن الانتخاب الطبيعي يجري تأثيره وذلك بإزالة الضعفاء من الوجود وإبقاء الأقوياء .

بدأ دارون - مستلهما فكر مالثوس - بكتابة تصوراته عن التطور، ولكنه بالرغم من كل شيء فلم يكن واثقا من أفكاره بل حاول، -بتشجيع من "ليل" صديقه الجيولوجي-  تطوير نظريته وتوسيعها .


في هذه الأثناء تقدم إليه عالم أحياء شاب اسمه "الفرد رسل والاس" بدراسة أطلق عليها اسم "تكامل الأنواع الموجودة من الأشكال البدائية للحياة نتيجة للتطور" . وأمام هذا التطور الذي أذهل دارون وأعطاه دفعة من الجرأة بدأ بجمع بحوثه وملاحظاته. 

وفي سنة  1859 م نشر كتابه المعروف أصل "أصل الأنواع" . أما بالنسبة "والاس" فإنه ذكر أن نظريته كانت وليدة تفكير لمدة أسبوع واحد فقط, لذا فإنه لا يدعي أي حق في مجال نظرية التطور، وهكذا كان "شرف" التوقيع على نظرية التطور من نصيب دارون ! وفي سنة 1882 م وتبعا لقانون الانتخاب فقد رحل جارلس دارون من هذه الحياة !!        



الفصل الثاني: ماهية نظرية التطور:


تحولت المواد غير العضوية إلى مواد عضوية بمرور الزمن وظهر الحي الأول على شكل خلية واحدة في الضحاضح – عن طريق الصدفة -  من هذه المواد العضوية، حيث يوجد ضوء الشمس وأملاح الطين التي يتألف منها صلصال لزج يشبه المادة البروتينية ثم مضت أزمنة طويلة؛ لأن الخلية الأولى كانت بطيئة التطور، ثم تطورت هذه الخلية إلى أشكال متعددة من أشكال الحياة ، وكل شكل كان يتطور هو الآخر إلى أشكال أعقد عن طريق الطفرات والصدفة أيضا ، والطفرات هذه هي سبب الفروقات بين الكائنات الحية، أما سبب انقراض الكثير من الكائنات فهو يعود إلى الانتخاب الطبيعي ، وتمثل كل من: الصدفة، والطفرة، والانتخاب الطبيعي ركائز نظرية التطور .


بعد الخلية الأولى ظهرت الحيوانات المركبة ، مثل: الإسفنج. وقد كان ظهور هذه الحيوانات تقدمًا بنوع ما؛ لأنه أوجد جسمًا مركبًا للحيوان، مؤلَّفًا من عدة خلايا متصلة، وإن لم يكن به شيء من التخصص بعد، ثم ظهرت الحيوانات الجوفاء، مثل: المرجان والقنديل، وهي ذات طبقتين من الخلايا تحتويان على كيس أجوف، ومضت أيضًا مدة طويلة على العالم وليس فيه من الحيوانات سوى الخلية المفردة والإسفنج والحيوانات الجوفاء لأن التطور كان بطيئًا في الدهور القديمة.

ظهرت بعد ذلك الحيوانات الشائكة وظهورها يعتبر خطوة مهمة في التطور؛ لأنها حصلت على بشرة جامدة بعض الجمود، فإذا انحسر عنها الماء لم تجف، بل تبقى حية مدة غير قصيرة، حتى إذا عاد الماء انتعشت، ولها مصاصات يحاول هذا الحيوان الأول أن يتحرك بها؛ وأمثلة هذه الحيوانات هي خيار البحر ونجمة البحر وكان التقدم بطيئًا أيضًا ، ثم ظهرت الحيوانات الحَلَقية كالدود فأسرع التطور بعض السرعة؛ وحدث التخصص في عدة نواح من أجزاء الجسم، وأخذ الحيوان يخرج من الماء إلى اليابسة؛ ومن الدود نشأت القشريات والعناكب والحشرات.


منذ ظهور الدود أصبح الحيوان في جهة واحدة وتوازت أعضاؤه في جانبين ، وبهذا الاتجاه كثر التخصص فظهرت الحشرات والقشريات والعناكب التي بقيت على حالها إلى اليوم . وبينما كانت الأحياء تحاول الخروج إلى اليابسة بظهور الديدان والقشريات، كان تطور آخر يجري في البحر بظهور الحيوانات الرخوة كالمحار ، ثم ظهرت الحيوانات الفقارية التي نشأت في الأغلب من الحيوانات الرخوة ، بعد أن تطور جسمها إلى اتجاه أمامي مع توازٍ جانبي وظهرت في البحر ، فخَطَت الحيوانات خطوة كبرى بخروج الفقريات إلى اليابسة، فظهرت الحيوانات البرمائية، ثم ظهرت الزواحف وملأت العالم.


وقد نشأت البرمائيات والزواحف من الأسماك وعصر الزواحف يمثِّل القرون المظلمة في تاريخ الأحياء؛ فقد جاء وقت ملأت فيه هذه الزواحف العالم، فكان منها الصغير الذي في حجم السلحفاة الآن، وكان منها الكبير الذي يشبه السحلية وكان حجمه يبلغ عشرة أضعاف حجم الفيل ثم جاء وقت انقرضت فيه هذه الحيوانات إلا القليل جدٍّا، وكان انقراضها فجائيٍّا، مما يدل على أن سبب ذلك في الأرجح هو تغيُّر حدث في مناخ العالم، بظهور عصر جليدي نشر البرد فأباد هذه الحيوانات التي لم يكن لها صوف أو ريش يحيمها، كما أباد أيضًا أنواع)الأمونيت( من المحار التي كانت تعج بها البحار في وقت الزواحف الكبرى ، ومن هذه الزواحف تفرَّع فرعان كبيران: أولهما الطيور، وثانيهما الثدييات التي ترضع أولادها .


وقد كان ظهور الثدييات في الطبيعة من الانقلابات العظيمة؛ لأننا نجد في الرضاع استبقاء الطفل مع الأم، ومعاني الأمومة والعائلة والحب واللغة والجماعة والتعليم، وهذه هي الظروف التي ساعدت على وجود الإنسان بعد ذلك.


انتهى العصر الجليدي الأخير بظهور الإنسان فقد أتيحت في هذا العصر الفرصة للحيوانات أن تتنازع بعقولها؛ لأن الدماغ كان قد بلغ حجمًا يُؤبه به، واتسع إدراك الحيوان ، فقد تضاعف حجم الدماغ بعد العصر الجليدي في جميع الحيوانات تقريبًا، مما يدل على أن النزاع بينها كان قائمًا على قوة الدهاء وسعة الحيلة والقدرة على الاستنباط. جعل العصر الجليدي الحياة شاقة على الأحياء؛ لأن الطعام قلَّ قلة محسوسة، ولأن مطالب الجسم زادت بزيادة البرد، وخرج الإنسان سيدًا للكائنات من هذا العصر؛ لأنه أكبرها دماغًا. وقد سبق ظهور الإنسان عدة حيوانات هي دون الإنسان وفوق القردة الحاضرة في حجم الدماغ، وقد انقرضت كلها بظهور الإنسان، وكذلك لم يظهر إنسان واحد، بل ظهر عدة أناسي قد عرف منهم خمسة الآن، نحن أحدها ووجدت جماجم الأربعة الأخرى، وهي :

  • جمجمة إنسان بكين الذي انقرض منذ نصف مليون سنة .
  • جمجمة الإنسان النياندرتالي، الذي يظن بعض العلماء أن دماءه لم تختلط بدمائنا لكراهية نشبت بيننا وبينه؛ لقبح صورته وكثرة الشعر في بشرته، فأفنيناه، وكان له شيء من الحضارة والدين.
  • جمجمة إنسان هيدلبرج الذي امتزج أيضًا بنا .
  • إنسان كرومانيون الذي امتزج بنا.

ولا يمكن الجزم بالمكان الذي نشأ فيه الإنسان الحاضر، وإنما يرجَّح أنه نشأ في مكان بارد . ويمكن إيجاز خطوات تطور الإنسان في الآتي:

  •  أننا في ملايين السنين السحيقة تعلَّقنا بالأشجار وعشنا فيها بعض حياتنا، وتعلَّمنا من التسلق مبادئ انتصاب القامة والإمساك باليد وتقوية حاسة النظر.

  •  انتصاب القامة جعلنا نستغني عن الذَنَب؛ لأن اليد الممسكة أدت عمله، واستطعنا أن نحمل رأسًا ضخمًا؛ لأنه يقع عموديٍّا على قامتنا.

  •  أن العينين صارتا في الوجه بدلًا من الصدغين، وصرنا نعتمد على النظر أكثر من أي حاسة أخرى .

  • لم نلتزم المعيشة في الشجر دون الأرض؛ ولذلك احتفظنا بالأيدي حرة تليق للتسلق كما تليق للإمساك، وبقيت الإبهام تواجه الكف أو تنطوي على الأصابع وقت الإمساك،وهذا هو ما فقدته القردة العليا فلم تحسن الإمساك.
  • لما تركنا الشجر وعشنا على الأرض احتجنا إلى الاجتماع، وأدى اجتماعنا إلى اختراع اللغة؛ للتفاهم وقت الصيد جماعة.
  •  بعد كل هذه الميزات، وبعد اختراع اللغة، غزونا هذا الكوكب وتسلَّطنا على جميع أفراد عائلتنا الحيوانية بما جمعته لنا اللغة من تراث ثقافي يزداد على مر السنين فتزيد معارفنا وتجاربنا وقوتنا.

  • إن اختراعنا اللغة زاد قدرتنا على تعديد المعاني وتنويعها، وأدى هذا إلى تكبير الدماغ الذي يختزن هذه المعاني؛ فاللغة هي أصل الدماغ الكبير، وليس الدماغ الكبير أصل اللغة.



وأخيرا نستطيع أن نلخص نظرية التطور فيما يلي:

  •  أننا البشر، وكافة أنواع الحيوان مما هو دون الإسفنج وما يعلو عليه؛ كالحشرات والسمك والثعابين والطيور والسباع والبهائم، نشترك في أصل واحد، وبيننا وبين هذه الحيوانات قرابة بعيدة.

  •  أننا البشر خاصة ننتمي إلى أسرة متعددة الأنواع؛ منها الزباب والطرسيوس والليمور والقرد، وهذه هي الأسرة الكبرى، أما العائلة الصغرى التي ننتمي إليها فهي القردة العليا، وليس معنى هذا أن القردة العليا الحاضرة هي الأصل الذي نرجع إليه، وإنما المعنى أننا نحن وهذه القردة من أصل واحد، وبيننا وبينها قرابة وثيقة؛ نحن أبناء عمومة .



الفصل الثالث:  دحض نظرية التطور:


ترتكز نظرية التطور على ثلاث ركائز، هي : الصدفة, والطفرة، والانتخاب الطبيعي، وكل ركيزة من هذه الركائز بحد ذاتها ضعيفة وواهنة. فالصدفة لا تستطيع أن تكون حامضا أمينيا واحد والذي هو جزء البروتين ، علما بأن البروتين جزء من الخلية .


وتتكون الوحدة الواحدة من التركيب الجزيئي للبروتينات عادة من عشرين نوعا من الأحماض الأمينية . ترتبط جزيئات الحامض الأميني مع بعضها بأشكال العلاقات الشبكية تدعى "Peptid  " لذا تدعى سلسلة الروتين الناتجة من مثل هذه العلاقات ﺑ   Polypeptidوالأنواع المختلفة من البروتينات تنتج ارتباطات مختلفة من الأحماض الأمينية وبأعداد مختلفة, ولو تكون نوعان من البروتين من الأنواع نفسها من الأحماض الأمينية وبالأعداد نفسها فإنهما يكونان مختلفين بمجرد تغير شكل ارتباط هذه الأحماض الأمينية  في أحد النوعين عن الآخر.


لنأخذ جزيئة بروتينية اشتركت في بنيتها الأنواع العشرين من الأحماض الأمينية التي تؤلف بمجموعها مئة حامض أميني, ولنحسب احتمال الصدفة في تكوين البنية الخاصة لهذه الجزيئة البروتينية . إن عدد أشكال واحتمالات الارتباطات في هذه الجزيئة يزيد على عشرة مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار مليار احتمال . أي أنك إذا وضعت مئة ألف صفر أمام الرقم واحد فإنك لن تكون  قد عبرت عن هذا الرقم بعد عن هذا الرقم الهائل . هذا على فرض الوجود المسبق للأحماض الأمينية بالعدد الكافي لنا أما إذا نزلنا إلى مستوى الذرات وإلى مستوى الانتظار لتكون الأحماض الأمينية الضرورية بالمقدار المطلوب فإن الأرقام ستصل إلى مستويات قد لا نستطيع مجرد حسابها .


إن الأنسولين - وهو من أبسط البروتينات – الذي يبلغ وزنه الجزيئي ( 6000 ) يتألف من سلسلتين من اﻠ Peptid   وتحتوي السلسلة الأولى على ( 21 ) نوعا من الأحماض الأمينية بينما تحتوي السلسلة الثانية على ( 30 ) حامضا أمينيا, أي أن ( 51 ) حامضا أمينيا يجتمع لتكوين جزيئة من جزيئات الأنسولين الذي يحتوي على خواص في منتهى الأهمية بالنسبة للحياة. واجتماع هذه الأحماض الأمينية يكون ضمن نظام دقيق قد تعين بموجبه موضع كل حامض أميني وكيفية ارتباطه بجيرانه .

وإذا أردنا حساب احتمال تراص ( 51 ) حامضا أمينيا يحتوي على ( 20 ) نوعا مختلفا من هذه الأحماض بالشكل الوارد أعلاه  ولمرة واحدة فقط لاضطررنا إلى ضرب الرقم ( 20 ) في نفسه ( 51 ) مرة والرقم الناتج من هذه العملية أكبر بمليارات المرات من عمر الكون.


أما احتمال تكوين الأنسولين هذا البروتين البسيط إن ترك للصدفة فلن يكفي لا حجم الكون ولا عمره لذلك ؛ فكيف للصدفة أن توجد توجد تنوع الحياة بشكله هذا ؟ إن كانت عاجزة أصلا عن إيجاد بروتين واحد .

أما إذا تطرقنا للطفرة الركيزة الثانية لنظرية التطور فلا تختلف كثيرا عن سابقتها ، والطفرة، هي : التغييرات التي تحدث في 

شفرات اﻠ  DNA عن طريق الخطأ أو الصدفة إذا يعتقد بأن الطفرة تحدث عندما يقع خطأ ما في اﻠ  DNA الموجودة في الكروموسات الناقلة للصفات الوراثية، فإذا تعرضت إلى الأشعة الكونية أو إلى أشعة إكس، أو إلى حرارة، تغيرت جزيئات اﻠ   DNA ، وبنتيجة هذا التغيير تظهر أنواع مختلفة من الأحياء . دعنا نتخيل بأننا قمنا بإمطار إحدى الطائرات وابلا من الرصاص بواسطة رشاشة أوتوماتيكية، فإذا كان محرك الطائرة قد اصيب برصاصة أو برصاصتين فإن من المحتمل أن تسقط الطائرة، أما نظرية التطور فإنها تتوقع عكس النتيجة، إذ تتوقع أن يتحسن محرك الطائرة فتصح من النوع التي تفوق سرعتها سرعة الصوت.

أما جزيئات اﻠ   DNA فإنها تملك تركيبا ، ليس أعقد فقط من أي محرك طائرة فحسب، بل أعقد من وأكمل من تركيب أي كمبيوتر موجود في العالم حاليا، بدرجة لا تقبل القياس أو المقارنة . والعبث بها لا يعطينا إنزيما جديدا في الخلية, ولا أجنحة لبقرة، ولا عمودا فقريا في دودة أرض. وقد ثبت مختبريا أن العبث بهذه الجزيئات لا يؤدي إلا إلى آثار سلبية, فمثلا : عرض ذباب الفاكهة ولمدة سنوات إلى الإشعاع في المختبر, ولم تكن النتيجة نوعا جديدا من ذباب الفاكهة, بل حصلنا على ذباب فاكهة ضعيف البنية, معتل الصحة, ذي جناح مشوه، مع اختلاف في لون العين والجسم.  

وبعد أن دُحضت الركيزتان الصدفة والطفرة، لا يُرى داع للتطرق للركيزة الثالثة (الانتخاب الطبيعي)؛ لأنه لا وجود لمخلوقات يجرى عليها انتخاب طبيعي كون الصدفة والطفرة لا تستطيعان خلق بروتين واحد فما بالك بخلية واحدة.


الفصل الرابع: سبب قبول نظرية التطور وانتشارها: 

 

قد يخطر على بال الكثيرين السؤال التالي : لو كانت نظرية التطور عبارة عن مثل هذه الادعاءات والأسانيد الضعيفة , إذن كيف تسنى لها أن تجمع المؤيدين حولها ؟ إن الذي يعطي أهمية لهذا السؤال، هو الفهم الخاطئ لطبيعة نظرية التطور، فالكثيرون يعتقدون أنهم أمام قانون علمي. بينما نظرية التطور مسألة اعتقاد أو بالأحرى عدم اعتقاد معين .


لذا لا نرى أية غرابة في حيازة هذه النظرية القبول في بعض الأوساط, خاصة بعد أن تحولت إلى اتجاه أيديولوجي, ولكن مع ملاحظة فارق واحد, وهو أن هذه النظرية قدمت باسم العلم ، واستغلت المفهوم الخاطئ السائد والقائل : (( إن العلم لا يخطئ, والعلماء لا يخطئون)) . هكذا استغلت النظرية هذا المفهوم الخاطئ أوسع استغلال .


إن كون العلماء أناسا يصيبون ويخطئون كأي أناس آخرين, حقيقة كثيرا ما تنسى في عصرنا الحالي، ولا شك أن القابلية للخطأ لا تستطيع وحدها تفسير تبني نظرية تفتقر إلى الأسس الصحيحة مثل نظرية التطور، لذا يجب الأخذ بعين الاعتبار – بجانب هذه – خواصا انسانية أخرى، فإذا أضافنا لها الدعاية الضخمة المركزة، عرفنا لماذا تهيأت كل الشروط اللازمة لتقبل نظرية ضعيفة مثل نظرية التطور . وأبرز هذه الخواص، هي خاصية ميل الأنفس إلى التخلص من المسؤولية .


إن نظرية التطور تريد أن تقدم لنا كونا وجد عن طريق الصدفة ...كونا سائبا ... ومن الطبيعي أن الكون، إن كان وجد صدفة، وليس نتيجة إرادة وخطة معينة، فإنه كون لا غاية له ولا هدف، إذن فلا محل للتفكير في الغاية والهدف من خلق هذا العالم الرائع، ومن خلق الإنسان، ولا حاجة إذن للخوف من يوم يحاسب فيه المرء على ما قدمت يداه .

______________________________________________________________________


المراجع :

  • دارون ونظرية التطور، تأليف شمس الدين آق بلوت، ترجمه عن التركية أورخان محمد علي، نشر دار الصحوة.
  • نظرية التطور وأصل الإنسان، تأليف سلامة موسى، نشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق